فصل: من فوائد أبي السعود في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد البيضاوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قُلْتُمْ يا موسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} يريدون به ما رزقوا في التيه من المن والسلوى. وبوحدته أنه لا يختلف ولا يتبدل، كقولهم طعام مائدة الأمير واحد يريدون أنه لا تتغير ألوانه وبذلك أجمعوا أو ضرب واحد، لأنهما طعام أهل التلذذ وهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم واشتهوا ما ألفوه.
{فادع لَنَا رَبَّكَ} سله لنا بدعائك إياه {يُخْرِجْ لَنَا} يظهر ويوجد، وجزمه بأنه جواب فادع فإن دعوته سبب الإجابة.
{مِمَّا تُنبِتُ الأرض} من الإِسناد المجازي، وإقامة القابل مقام الفاعل، ومن للتبعيض.
{مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} تفسير وبيان وقع موقع الحال، وقيل بدل بإعادة الجار. والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايبه التي تؤكل، والفوم الحنطة ويقال للخبز ومنه فوموا لنا، وقيل الثوم وقرئ قُثَّائها بالضم، وهو لغة فيه.
{قَالَ} أي الله، أو موسى عليه السلام.
{أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى} أقرب منزلة وأدون قدرًا. وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة، فقيل بعيد المحل بعيد الهمة، وقرئ {أدنأ} من الدناءة.
{بالذي هُوَ خَيْرٌ} يريد به المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي.
{اهبطوا مِصْرًا} انحدروا إليه من التيه، يقال هبط الوادي إذا نزل به، وهبط منه إذا خرج منه، وقرئ بالضم والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين، وقيل أراد به العلم، وإنما صرفه لسكون وسطه أو على تأويل البلد، ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود. وقيل أصله مصراتم فعرب.
{فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه، أو ألصقت بهم، من ضرب الطين على الحائط، مجازاة لهم على كفران النعمة. واليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين، إما على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم.
{وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله} رجعوا به، أو صاروا أحقاء بغضبه، من باء فلان بفلان إذا كان حقيقًا بأن يقتل به، وأصل البوء المساواة.
{ذلك} إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب.
{بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيرِ الحق} بسبب كفرهم بالمعجزات، التي من جملتها ما عد عليهم من فلق البحر، وإظلال الغمام، وإنزال المن والسلوى، وانفجار العيون من الحجر. أو بالكتب المنزلة: كالإنجيل، والفرقان، وآية الرجم والتي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة، وقتلهم الأنبياء فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق عندهم، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم، وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه بقوله: {ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي: جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات، وقتل النبيين.
فإن صغار الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها. وقيل كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر، والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله تعالى. وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل، والباء بمعنى مع وإنما جوزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعدًا على تأويل ما ذكر، أو تقدم للإختصار، ونظيره في الضمير قول رؤبة يصف بقرة:
فِيها خُطُوطٌ مِنْ سَوادٍ وَبَلَق ** كأنهُ في الْجِلِد تَوْلِيعُ البَهقْ

والذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع. اهـ.

.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِذْ قُلْتُمْ} تذكيرٌ لجناية أخرى لأسلافهم وكُفرانهم لنعمة الله عز وجل وإخلادِهم إلى ما كانوا فيه من الدناءة والخساسةِ، وإسنادُ القول المحكّى إلى أخلاقهم وتوجيهُ التوبيخ إليهم لما بينهم من الاتحاد {يا موسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} لعلهم لم يريدوا بذلك جمعَ ما طلبوا مع ما كان لهم من النعمة ولا زوالَها وحصولَ ما طلبوا مكانها إذ يأباه التعرضُ للوحدة بل أرادوا أن يكون هذا تارةً وذاك أخرى. رُوي أنهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة العتيدة لوحدتها النوعية وإطرادها وتاقت أنفسُهم إلى الشقاء {فادع لَنَا رَبَّكَ} أي سله لأجلنا بدعائك إياه والفاء لسببية عدمِ الصبر للدعاء، والتعرضُ لعنوان الربوبية لتمهيد مبادي الإجابة {يُخْرِجْ لَنَا} أي يُظهِرْ لنا ويوجِدْ والجزم لجواب الأمر {مِمَّا تُنبِتُ الأرض} إسناد مجازيٌّ بإقامَةِ القابلِ مُقامَ الفاعل ومن تبعيضيةٌ والتي في قوله تعالى: {مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} بيانية واقعةٌ موقعَ الحال أي كائنًا من بقلها الخ وقيل: بدلٌ بإعادة الجارِّ، والبقلُ ما تنبتُ الأرضُ من الخُضَر والمراد به أطايبُه التي تؤكلُ كالنَّعناع والكُرفُس والكُرَّاث وأشباهِها، والفومُ الحِنطةُ وقيل: الثوم وقرئ قُثائها بضم القاف وهو لغة فيه {قَالَ} أي الله تعالى أو موسى عليه السلام إنكارًا عليهم وهو استئناف وقع جوابًا عن سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قال لهم فقيل قال: {أَتَسْتَبْدِلُونَ} أي أتأخُذون لأنفسِكم وتختارون {الذى هُوَ أدنى} أي أقربُ منزلةً وأدون قدرًا سهلُ المنال وهينُ الحصول لعدم كونه مرغوبًا فيه وكونه تافهًا مرذولًا قليلَ القيمة، وأصلُ الدنوّ القُرب في المكان فاستعير للخِسة كما استعير البُعدُ للشرف والرفعة، فقيل: بعيدُ المحل وبعيدُ الهمة وقرئ أدنأُ من الدناءة وقد حملت المشهورة على أن ألفها مبدلة من الهمزة {بالذى هُوَ خَيْرٌ} أي بمقابلة ما هو خيرٌ فإن الباء تصحب الذاهبَ الزائلَ دون الآتي الحاصل كما في التبدل والتبديل في مثل قوله عز وجل: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان} وقوله: {وبدلناهم بجنتيهم جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ} وليس فيه ما يدل قطعًا على أنهم أرادوا زوالَ المنِّ والسلوى بالمرة، وحصولُ ما طلبوا مكانه لتحقق الاستبدال فيما مر من صورة المناوبة {اهبطوا مِصْرًا} أُمروا به بيانًا لدناءة مطلَبِهم أو إسعافًا لمرامهم أي انحدروا إليه من التّيه يقال: هبَط الواديَ وقرئ بضم الباء، والمِصرُ البلدُ العظيم وأصله الحدُّ بين الشيئين، وقيل: أريد به العلُم وإنما صُرف لسكون وسَطِه أو لتأويله بالبلد دون المدينة، ويؤيده أنه في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه غيرُ منون، وقيل: أصلُه مِصْراييم فعرب {فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} تعليلٌ للأمر بالهبوط أي فإن لكم فيه ما سألتموه، ولعل التعبيرَ عن الأشياء المسئولة بما للاستهجان بذكرها كأنه قيل: فإنه كثيرٌ فيه مبتذلٌ يناله كلُّ أحد بغير مشقة {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} أي جعلتا محيطتين بهم إحاطةَ القُبة بمن ضربت عليه أو ألصِقتا بهم وجعلتا ضربةَ لازبٍ لا تنفكان عنهم مجازاةً لهم على كُفرانهم، مِنْ ضَرْبِ الطينِ على الحائط بطريق الاستعارة بالكناية، واليهودُ في غالب الأمر أذلاءُ مساكينُ إما على الحقيقة، وإما لخوف أن تضاعَفَ جزيتُهم {وَبَاءوا} أي رجعوا، {بِغَضَبٍ} عظيم وقوله تعالى: {مِنَ الله} متعلق بمحذوف هو صفةٌ لغضبٍ مؤكِّدٌ لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافيةِ أي بغضب كائنٍ من الله تعالى أو صاروا أحقاءَ به، من قولهم باءَ فلانٌ بفلان أي صار حقيقًا بأن يُقتلَ بمقابلته، ومنه قول من قال: بُؤْ بشِسْعِ نعلِ كُلَيبٍ، وأصل البَوْء المساواة {ذلك} إشارةٌ إلى ما سلف من ضرب الذِلة والمسكنةِ والبَوْءِ بالغضب العظيم {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {كَانُواْ يَكْفُرُونَ} على الاستمرار {لَّهُ مَقَالِيدُ} الباهرة التي هي المعجزاتُ الساطعةُ الظاهرة على يدي موسى عليه السلام مما عُد وما لم يُعَدَّ {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} كشَعْيا وزكريا ويحيى عليهم السلام، وفائدةُ التقييد مع أن قتل الأنبياءِ يستحيل أن يكون بحق الإيذانُ بأن ذلك عندهم أيضًا بغير الحق إذ لم يكن أحد معتقدًا بحقية قتلِ أحدٍ منهم عليهم السلام وإنما حملهم على ذلك حبُّ الدنيا واتباعُ الهوى والغلوُّ في العصيان والاعتداءُ كما يفصح عنه قوله تعالى: {ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي جرَّهم العصيانُ والتمادي في العُدوان إلى ما ذُكر من الكفر وقتلِ الأنبياءِ عليهم السلام فإن صِغارَ الذنوب إذا دُووِمَ عليها أدتْ إلى كبارها كما أن مداومةَ صغارِ الطاعات مؤديةٌ إلى تحرّي كبارِها، وقيل: كُرِّرت الإشارةُ للدلالة على أن ما لَحِقَهم كما أنه بسبب الكفر والقتلِ فهو بسببِ ارتكابِهم المعاصيَ واعتدائهم حدودَ الله تعالى وقيل: الإشارةُ إلى الكفر والقتل، والباء بمعنى مع ويجوز الإشارة إلى المتعدِّد بالمفرد بتأويل ما ذُكر أو تقدم كما في قول رؤبة بنِ العجاج:
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَق ** كأنه في الجِلد توليعُ البَهَقْ

أي كان ما ذُكر والذي حسَّن ذلك في المضْمَرات والمبهمات أن تثنيتها وجمعَها ليسا على الحقيقة ولذلك جاء الذي بمعنى الذين. اهـ.

.من فوائد الشوكاني في الآية:

قال رحمه الله:
قوله: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} تضجُّر منهم بما صاروا فيه من النعمة، والرزق الطيب، والعيش المستلذ، ونزوع إلى ما ألفوه قبل ذلك من خشونة العيش:
إنَّ الشَقيَّ بالشَقَاءِ مُولعٌ ** لا يَمْلِكُ الردَّ لَهُ إذا أتى

ويحتمل أن لا يكون هذا منهم تشوقًا إلى ما كانوا فيه، ونظرًا لما صاروا إليه من العيشة الرافهة، بل هو: باب من تعنتهم، وشعبة من شعب تعجرفهم كما هو دأبهم، وهِجّيِراهم في غالب ما قصّ علينا من أخبارهم.
وقال الحسن البصري: إنهم كانوا أهل كراث، وأبصال، وأعداس، فنزعوا إلى عكرهم، أي: أصلهم عكر السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم، فقالوا: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} والمراد بالطعام الواحد: هو: المنّ والسلوى، وهما، وإن كانا طعامين لكن لما كانوا يأكلون أحدهما بالآخر جعلوهما طعامًا واحد.
وقيل: لتكررهما في كل يوم، وعدم وجود غيرهما معهما، ولا تبدلة بهما.
ومن في قوله: {مِمَّا تُنبِتُ} تخرج.
قال الأخفش زائدة، وخالفه سيبويه، لكونها لا تزاد في الكلام الموجب.
قال النحاس: وإنما دعا الأخفش إلى هذا؛ لأنه لم يجد مفعولًا ليخرج فأراد أن يجعل ما مفعولًا.
والأولى أن يكون المفعول محذوفًا دل عليه سياق الكلام، أي: تخرج لنا مأكولًا.
وقوله: {مِن بَقْلِهَا} بدل من ما بإعادة الحرف.
والبقل: كل نبات ليس له ساق، والشجر: ما له ساق.
قال في الكشاف: البقل: ما أنبتته الأرض من الخضر، والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع، والكرفس، والكراث، وأشباهها. انتهى.
والقثاء بكسر القاف، وفتحها.
والأولى قراءة الجمهور، والثانية قراءة يحيى بن وثاب، وطلحة بن مُصَرَّف، وهو معروف.
والفوم: قيل هو: الثوم، وقد قرأه ابن مسعود بالثاء.
وروي نحو ذلك عن ابن عباس، وقيل: الفوم: الحنطة، وإليه ذهب أكثر المفسرين، كما قال القرطبي.
وقد رجح هذا ابن النحاس.
وقال الجوهري: الثوم الحنطة، وممن قال بهذا الزجاج، والأخفش، وأنشد:
قَدْ كُنْتُ أحْسبني كَأغْنَى وَاحِد ** تَركَ المدينةَ عَنْ زِراعةِ فُومِ

وقال بالقول الأوّل الكسائي، والنضر بن شميل، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
كَانَت مَنَازِلُهم إذ ذَاكَ ظَاهِرة ** فِيهَا الفَرَادِيسُ والفُومَاتُ والبْصَلُ

أي الثوم، وقال حسان:
وأنتم أُناسٌ لِئَامُ الأصُولِ ** طَعَامكم الفْوُمُ وَالْحوَقلُ

يعني الثوم والبصل، وقيل: الفوم: السنبلة.
وقيل الحمص.
وقيل: الفوم: كل حبّ يخبز.
والعدس والبصل معروفان.
والاستبدال: وضع الشيء موضع الآخر و{أَدْنَى} قال الزجاج: إنه مأخوذ من الدنوّ.
أي: القرب، والمراد: أتضعون هذه الأشياء التي هي دون موضع المنّ والسلوى اللذين هما خير منها من جهة الاستلذاذ، والوصول من عند الله بغير واسطة أحد من خلقه، والحلّ الذي لا تطرقه الشبهة، وعدم الكلفة بالسعي له، والتعب في تحصيله.
وقوله: {اهبطوا مِصْرًا} أي: انزلوا، وقد تقدّم معنى الهبوط.
وظاهر هذا أن الله أذن لهم بدخول مصر.
وقيل: إن الأمر للتعجيز؛ لأنهم كانوا في التيه، فهو مثل قوله تعالى: {كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50]، وصرف مصر هنا مع اجتماع العلمية، والتأنيث؛ لأنه ثلاثي ساكن الوسط، وهو: يجوز صرفه مع حصول السببين، وبه قال الأخفش والكسائي.
وقال الخليل، وسيبويه: إن ذلك لا يجوز، وقالا: إنه لا علمية هنا؛ لأنه أراد مصرًا من الأمصار، ولم يرد المدينة المعروفة، وهو خلاف الظاهر.
وقرأ الحسن، وأبان بن تغلب، وطلحة بن مصرف بترك التنوين، وهو كذلك في مصحف أبيّ، وابن مسعود.
ومعنى ضرب الذلة، والمسكنة إلزامهم بذلك، والقضاء به عليهم قضاء مستمرًا لا يفارقهم، ولا ينفصل عنهم، مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب على من فيها، ومنه قول الفرزدق يهجو جريرًا:
ضرَبَت عَلَيْكَ العَنكَبوتُ بِوزَنها ** وَقَضى عَلَيْكَ بِه الكِتابُ المُنزلُ

وهو ضرب من الهجاء بليغ، كما أنه إذا استعمل في المديح كان في منزلة رفيعة، ومنه قول الشاعر:
إنَّ المُروءةَ والشَجَاعَة والنَدَى ** في قُبةٍ ضُرِبتْ على ابن الحَشرجِ

وهذا الخبر الذي أخبرنا الله به هو معلوم في جميع الأزمنة، فإن اليهود أقمأهم الله أذلّ الفرق، وأشدّهم مسكنة، وأكثرهم تصاغرًا، لم ينتظم لهم جمع، ولا خفقت على رءوسهم راية، ولا ثبتت لهم ولاية، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن، وطروقة كل فحل في كل عصر، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بلغ في الكثرة أيّ مبلغ فهو متظاهر بالفقر مُتَرَدٍّ بأثواب المسكنة ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله، إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية، أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من التجرؤ على الله بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه.
ومعنى {باءوا} رجعوا، يقال باء بكذا، أي: رجع به، وباء إلى المباءة، أي: رجع إلى المنزل، والبواء: الرجوع، ويقال: هم في هذا الأمر بواء، أي: سواء: يرجعون فيه إلى معنى واحد، وباء فلان بفلان: إذا كان حقيقًا بأن يقبل به لمساواته له، ومنه قول الشاعر:
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي ** محاربنا لا يبوأ الدم بالدم

والمراد في الآية: أنهم رجعوا بغضب من الله، أو صاروا أحقاء بغضبه.
وقد تقدم تفسير الغضب، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدم من حديث الذلة وما بعده بسبب كفرهم بالله، وقتلهم لأنبيائه بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به، ولم يخرج هذا مخرج التقييد حتى يقال: إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة، بل المراد: نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر.
ويمكن أن يقال: أنه ليس بحق في اعتقادهم الباطل، لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لم يعارضوهم في مال ولا جاه، بل أرشدوهم إلى مصالح الدين.
والدنيا، كما كان من شعيا وزكريا ويحيى، فإنهم قتلوهم، وهم يعلمون ويعتقدون أنهم ظالمون، وتكرير الإشارة لقصد التأكيد، وتعظيم الأمر عليهم، وتهويله، ومجموع ما بعد الإشارة الأولى والإشارة الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده.
وقيل: يجوز أن تكون الإشارة الثانية إلى الكفر والقتل، فيكون ما بعدها سببًا للسبب وهو بعيد جدًا.
والاعتداء تجاوز الحدّ في كل شيء.
وقد أخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} قال ذلك في التيه، ضرب لهم موسى الحجر، فصار فيها اثنتا عشرة عينًا من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة ومجاهد وابن أبي حاتم عن جويبر نحو ذلك.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض} قال: لا تسعوا في الأرض فسادًا.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: يعني: لا تمشوا بالمعاصي.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: لا تسيروا في الأرض مفسدين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} قال: المنّ والسلوى، واستبدلوا به البقل، وما حكى معه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَفُومِهَا} قال: الخبز، وفي لفظ: البر، وفي لفظ: الحنطة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الفوم: الثوم.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع بن أنس مثله.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن ابن مسعود؛ أنه قرأ: {وثومها} وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال: قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفًا من قراءة ابن مسعود هذا أحدها: {من بقلها وقثائها وثومها}.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد في قوله: {الذى هُوَ أدنى} قال: أردأ.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله: {اهبطوا مِصْرًا} قال مصرًا من الأمصار.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية: أنه مصر فرعون.
وأخرج نحوه ابن أبي داود، وابن الأنباري عن الأعمش.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} قال: هم أصحاب الجزية.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة والحسن؛ قال: ضربت عليهم الذلة، والمسكنة أي: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية قال: المسكنة الفاقة.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله} قال: استحقوا الغضب من الله.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وَبَاءوا} قال: انقلبوا.
وأخرج أبو داود الطيالسي، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبيّ، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار. اهـ.